الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
فأجاب: إذا تزوجت الأم فلا حضانة لها، وإذا سافرت سفر نقلة فالحضانة للجد دونها، ومن حضنته ولم تكن الحضانة لها وطالبت بالنفقة لم يكن لها ذلك، فإنها ظالمة بالحضانة، فلا تستحق المطالبة بالنفقة، وإن كان الجد عاجزا عن نفقة ابن ابنه لم تجب عليه نفقته.
/وَقَال ـ قدس اللَّه رُوحَه: اليتيم في الآدميين من فقد أباه؛ لأن أباه الذي يهذبه، ويرزقه، وينصره بموجب الطبع المخلوق؛ ولهذا كان تابعاً في الدين لوالده، وكان نفقته عليه وحضانته عليه، والإنفاق هو الرزق. والحضانة هي النصر لأنها الإيواء، ودفع الأذي. فإذا عدم أبوه طمعت النفوس فيه؛ لأن الإنسان ظلوم جهول، والمظلوم عاجز ضعيف، فتقوى جهة الفساد من جهة قوة المقتضي، ومن جهة ضعف المانع، ويتولد عنه فسادان: ضرر اليتيم الذي لا دافع عنه ولا يحسن إليه، وفجور الآدمي الذي لا وازع له. فلهذا أعظم الله أمر اليتامى في كتابه في آيات كثيرة مثل قوله: الجواب: الحمد لله رب العالمين، ما دام الولد عندها وهي تنفق عليه، وقد أخذته على أن تنفق عليه من عندها ولا ترجع على الأب، لا نفقة لها باتفاق الأئمة. أي لا ترجع عليه بما أنفقت هذه المدة، لكن لو أرادت أن تطالب بالنفقة في المستقبل فللأب أن يأخذ الولد منها ـ أيضاً ـ فإنه لا يجمع لها بين الحضانة في هذه الحال، ومطالبة الأب بالنفقة مع ما ذكرنا بلا نزاع، لكن لو اتفقا على ذلك، فهل يكون العقد بينهما لازما؟ هذا فيه خلاف، والمشهور من مذهب مالك هو لازم، وإذا كان كذلك فلا ضرر للأب في هذا الالتزام. والله أعلم.
/وقال الشيخ ـ رحَمه اللَّه تعالى: الحمد لله الذي نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم تسليما كثيرًا.
في مذهب الإمام أحمد وغيره من العلماء في حضانة الصغير المميز: هل هي للأب، أو للأم، أو يخير بينهما؟ فإن كثيرًا من كتب أصحاب أحمد إنما فيها أن الغلام إذ بلغ سبع سنين خير بين أبويه، وأما الجارية فالأب أحق بها وهؤلاء الذين ذكروا هذا ـ كالخرقي وغيره ـ بلغهم بعض نصوص أحمد في هذه المسألة ولم يبلغهم سائر نصوصه، فإن كلام أحمد كثير منتشر جدًا وقل من يضبط جميع نصوصه في كثير من المسائل؛ لكثرة كلامه وانتشاره، وكثرة من كان يأخذ العلم عنه. وأبو بكر الخلال قد طاف البلاد وجمع من نصوصه في مسائل الفقه نحو أربعين مجلدًا، وفاته أمور كثيرة ليست في كتبه، وأما ما جمعه /من نصوصه فمن أصول الدين مثل: كتاب [السنة] نحو ثلاث مجلدات، ومثل [أصول الفقه]، والحديث مثل كتاب [العلم] الذي جمعه من الكلام على علل الأحاديث مثل كتاب [العلل] الذي جمعه، ومن كلامه في أعمال القلوب والأخلاق والأدب، ومن كلامه في الرجال والتاريخ، فهو مع كثرته لم يستوعب ما نقله الناس عنه. والمقصود هنا أن النزاع عنه موجود في المسألتين كلتاهما في مسألة البنت، وفي مسألة الابن، وعنه في الابن ثلاث روايات معروفة، وممن ذكرهن أبو البركات في محرره. وعنه في الجارية روايتين، وممن ذكرهما أبو عبد الله بن تيمية في كتابيه: [التلخيص] و [ترغيب القاصد] والروايات موجودة بألفاظها ونقلتها وأسانيدها في عدة كتب. وممن ذكر هذه الروايات القاضي أبو يعلي في تعليقه نقل عن أحمد في الغلام: أمه أحق به حتى يستغني عنها، ثم الأب أحق به. فقال في رواية الفضل بن زياد: إذا عقل الغلام واستغني عن الأم فالأب أحق به. وقال في رواية أبي طالب: والأب أحق بالغلام اذا عقل واستغني عن الأم. وهذا الذي نقله القاضي أبو يعلى والثاني وغيرهما هو المنقول عن أبي حنيفة قال: إذا أكل وحده، ولبس وحده، وتوضأ وحده، فالأب أحق به. ونقل ابن المنذر: أنه يخير بين أبويه عن أبي حنيفة وأبي ثور. والأول هو مذهب أبي حنيفة، الموجود في كتب أصحابه وهو إحدى الروايتين عن مالك؛ فإنه نقل عنه ابن وهب: الأم أحق به حتى /يثغر، ولكن المشهور عنه أن الأم أحق به مالم يبلغ. وهذه هي الرواية الثانيـة عن أحمد. وأما المشـهور عن أحمد ـ وهو تخيير الغلام بين أبويه ـ فهو مذهب الشافعي، وإسحاق بن راهويه. وموافقته للشافعي وإسحاق أكثر من موافقته لغيرهما، وأصوله بأصولهما أشبه منها بأصول غيرهما، وكان يثني عليهما ويعظمهما، ويرجح أصول مذاهبهما على من ليست أصول مذاهبه كأصول مذاهبهما، ومذهبه أن أصول فقهاء الحديث أصح من أصول غيرهم، والشافعي وإسحاق هما عنده من أجل فقهاء الحديث في عصرهما، وجمع بينهما بمسجد الخيف فتناظرا في مسألة إجارة بيوت مكة والقصة مشهورة، وذكر أحمد أن الشافعي علا إسحاق بالحجة في موضع، وأن إسحاق علاه بالحجة في موضع. فإن الشافعي كان يبيح البيع والإجارة، وإسحق يمنع منهما، وكانت الحجة مع الشافعي في جواز بيعها، ومع إسحاق في المنع من إجارتها. والرواية الثالثة عن أحمد: أن الأم أحق بالغلام مطلقا، كمذهب مالك، أخذت من قوله في رواية حنبل: في الرجل يطلق امرأته وله منها أولاد صغار، فالأم أعطف عليهم مقدار ما يعقلون الأدب، فتكون الأم بهم أحق مالم تتزوج، فإذا تزوجت فالأب أحق بولده، غلاما كان، أو جارية. قال الشيخ أبو البركات: فهذه الرواية تدل على أنه إذ كبر وصار يعقل الأدب /فإنه يكون مقره ـ أيضا ـ عند الأم، لكن في وقت الأدب وهو النهار يكون عند الأب، وهذه المدونة مذهب مالك بعينه الذي حكيناه. فصار في المسألة ثلاث روايات. ومذهب مالك في التهذيب أن الأم أحق به مالم يبلغ، والأب يتعاهده عندها، وأدبه وبعثه إلى المكتب، ولا يبيت إلا عند أم. قلت: وحنبل وأحمد بن الفرج كانا يسألان الإمام أحمد عن مسائل مالك وأهل المدينة، كما كان يسأله إسحاق بن منصور وغيره عن مسائل سفيان الثوري وغيره، وكما كان يسأله الميموني عن مسائل الأوزاعي، وكما كان يسأله إسماعيل بن سعيد الشالنجي عن مسائل أبي حنيفة وأصحابه، فإنه كان قد تفقه على مذهب أبي حنيفة، واجتهد في مسائل كثيرة رجح فيها مذهب أهل الحديث، وسأل عن تلك المسائل أحمد وغيره، وشرحها ابراهيم بن يعقوب الجوزجاني إمام مسجد دمشق. وأما حضانة البنت إذا صارت مميزة فوجدنا عنه روايتين منصوصتين، وقد نقلهما غير واحد من أصحابه كأبي عبد الله بن تيمية وغيره: إحداهما: أن الأب أحق بها، كما هو موجود في الكتب المعروفة في مذهبه. والثانية: أن الأم أحق بها. قال في رواية إسحاق بن منصور: يقضي بالجارية للأم والخالة، حتى إذا احتاجت إلى التزويج فالأب أحق بها. /وقال في رواية رضا بن يحيي: إن الأم والجدة أحق بالجارية حتى تتزوج. وقال أبو عبد الله في ترغيب القاصد وإن كانت جارية فالأب أحق بها بغير تخيير. وعنه: الأم أحق بها حتى تحيض. وهذه الرواية الثانية هي نحو مذهب مالك وأبي حنيفة. ففي المدونة مذهب مالك: أن الأم أحق بالولد مالم يبلغ، سواء كان ذكراً أو أنثي فإذا بلغ وهو أنثي نظرت فإذا كانت الأم في حوز ومنعة وتحصن فهي أحق بها أبدا ما لم تنكح، وإن بلغت أربعين سنة. وإن لم تكن في منع وحرز وتحصن، أو كانت غير مرضية في نفسها فللأب أخذها منها، والوصي، وكذلك الأولياء، والوصى كالأب في ذلك إذا أخذ إلى أمانة وتحصن. ومذهب الليث بن سعد نحو ذلك، قال: الأم أحق بالجارية حتى تبلغ إلا أن تكون الأم غير مرضية في نفسها وأدبها لولدها أخذت منها إذا بلغت، إلا أن تكون صغيرة لا يخاف عليها. وقال أبو حنيفة: الأم والجدة أحق بالجارية حتى تحيض، ومن سوي الأم والجدة أحق بها حتى تبلغ حداً تشتهي، ولفظ الحجازي: حتى تستغني، كما في الغلام مطلقاً. وأما التخيير في الجارية فهو قول الشافعي، ولم أجده منقولا لا عن أحمد، ولا عن إسحاق، كما نقل عنهما التخيير في الغلام، ولكن نقل عن الحسن بن صالح بن حيي: أنها تخير إذا كانت كاعبا، والتخيير في الغلام. ومذهب الشافعي وأحمد في المشهور عنه وإسحاق للحديث الوارد /في ذلك حيث خير النبي صلى الله عليه وسلم غلاما بين أبويه، وهي قضية معينة. ولم يرد عنه نص عام في تخيير الولد مطلقا، والحديث الوارد في تخيير الجارية ضعيف مخالف لإجماعهم. والفرق بين تخيير الغلام والجارية: أن هذا التخيير تخيير شهوة، وتخيير رأي مصلحة، كتخيير من يتصرف لغيره كالإمام والولي، فإن الإمام إذا خير في الأسري بين القتل والاسترقاق والمن والفداء فعليه أن يختار الأصلح للمسلمين فيكون مصيبا في اجتهاده، حاكما بحكم الله، ويكون له أجران، وقد لا يصيبه فيثاب على استفراغ وسعه ولا يأثم بعجزه عن معرفة المصلحة، كالذي ينزل أهل حصن على حكمه، كما نزل بنوا قريظة على حكم النبي صلى الله عليه وسلم. فلما سأله فيهم بنو عبد الأشهل، قال: (ألا ترضون أن أجعل الأمر إلى سيدكم سعد بن معاذ)، فرضوا بذلك، وطمع من كان يجب استبقاءهم أن سعداً يحابيهم، لما كان بينه وبينهم في الجاهلية من المولاة، فلما أتي سعد حكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبي ذراريهم، وتقسم أموالهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات)، وهذا يقتضي أنه لو حكم بغير ذلك لم يكن ذلك حكماً لله في نفس الأمر. وإن كان لابد من إنقاذه. ومثل ما ثبت في صحيح مسلم وغيره من حديث بريدة المشهور قال فيه: (وإذا حاصرت أهل حصن فسألوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على /حكم الله، فإنك لا تدري ما حكم الله فيهم، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك). ولهذا قال الفقهاء: إنه إذا حاصر الإمام حصنا فنزلوا على حكم حاكم جاز، إذا كان رجلا حرا، مسلما، عدلا، من أهل الاجتهاد في أمر الجهاد، ولا يحكم إلا بما فيه حظ الإسلام، من قتل، أو رق، أو فداء. وتنازعوا فيما إذا حكم بالمن فأباه الإمام: هل يلزم حكمه أو لا يلزم؟ أو يفرق بين المقاتلة والذرية؟ على ثلاثة أقوال. وإنما تنازعوا في ذلك لظن المنازع أن المن لاحظ فيه للمسلمين. والمقصود أن تخيير الإمام والحاكم الذي نزلوا على حكمه هو تخيير رأي ومصلحة يطلب أي الأمرين كان أرضي لله ورسوله فعله، كما ينظر المجتهد في أدلة المسائل، فأي الدليلين كان أرجح اتبعه، ولكن معني قولنا تخيير أنه لا يتعين فعل واحد من هذه الأمور في كل وقت، بل قد يتعين فعل هذا تارة، وهذا تارة. وقوله في القرآن: /ولهذا كان عند جميع العلماء قوله تعالى في المحاربين: ومن هذا الباب تخيير الإمام في الأرض المفتوحة عنوة بين جعلها فيء ا، وبين جعلها غنيمة، كما هو قول الأكثرين ـ كأبي حنيفة، والثوري، وأبي عبيد، وأحمد في المشـهور عنه ـ فإنهم قالوا: إن رأي المصلحة جعلها غنيمة قسمها بين الغانمين، كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر، وإن رأي أن لا يقسمها جاز، كما لم يقسم النبي صلى الله عليه وسلم مكة، مع أنه فتحها عنوة شهدت بذلك الأحاديث الصحيحة، والسيرة المستفيضة، وكما قاله جمهور العلماء؛ ولأن خلفاءه بعده ـ أبو بكر، وعمر، وعثمان ـ فتحوا ما فتحوا من أرض العرب والروم وفارس، كالعراق، والشام، ومصر، وخراسان، ولم يقسم أحد من الخلفاء شيئا من العقار المغنوم بين الغانمين، لا السواد، ولا غير السواد، بل جعل العقار فيء ا للمسلمين داخلا في قوله: وهذا مما احتج به من جعل الأرض فيء ا بنفس الفتح، ومن ذلك نص مذهبه كإسماعيل ابن إسحاق، وقالوا الأرض ليست داخلة في الغنيمة، فإن الله حرم على بني إسرائيل المغانم، وملكهم العقار، فعلم أنه ليس في المغانم. وهذا القول هو الذي يذكر رواية عن أحمد، كما ذكر عنه رواية ثالثة كقول الشافعي: إنه يجب قسم العقار، والمنقول؛ لأن الجميع مغنوم، وقال الشافعي: إن مكة لم تفتح عنوة، بل صلحا، فلا يكون على منها حجة. ومن حكي عنه أنه قال: إنها فتحت عنوة ـ كصاحب الوسيط وغيره ـ فقد غلط عليه، وقال: لأن السواد لا أدري ما أقول فيه، إلا أن أظن فيه ظنا مقروناً بعلم، وظن أن عمر استطاب الغانمين، كما روي قيس بن حارثة. وبسط هذا له موضع آخر. وقول الجمهور أعدل الأقاويل وأشبهها بالكتاب والسنة والأصول، وهم الذين قالوا: نخير الإمام بين الأمرين تخيير رأي ومصلحة لا تخيير شهوة ومشيئة، وهكذا سائر ما يخير فيه ولاة الأمر ومن تصرف لغيره بولاية: كناظر الوقف، ووصى اليتيم، والوكيل المطلق، لا يخيرون تخيير مشيئة وشهوة، بل تخيير اجتهاد ونظر وطلب الجواز الأصلح ـ كالرجل المبتلى /بعدوين، وهو مضطر إلى الابتداء بأحدهما. فيبتديء بماله أنفع ـ كالإمام في تولية من يوليه من ولاة الحرب، والحكم، والمال ـ يختار الأصلح فالأصلح للمسلمين (فمن ولي رجلاً على عصابة وهو يجد فيهم من هو أرضًا لله منه فقد خان الله وخان رسوله وخان المؤمنين). وهذا بخلاف من خير بين شيئين فله أن يفعل أيهما شاء ـ كالمكفر إذا خير بين الإطعام والكسوة والعتق، فإنه وإن كان أحد الخصال أفضل فيجوز له فعل المفضول. وكذلك لابس الخف إذا خير بين المسح وبين الغسل، وإن كان أحدهما أفضل. وكذلك المصلي إذا خير بين الصلاة في أول الوقت وآخره، وإن كان أحدهما أفضل. وكذلك تخيير الآكل والشارب بين أنواع الأطعمة والأشربة المباحة، وإن كان نفس الأكل والشرب واجبا عند الضرورة حتى إذا تعين المأكول وجب أكله وإن كان ميتة، فمن اضطر إلى أكل الميته وجب عليه أكلها في المشهور عن الأئمة الأربعة وغيرهم من أهل العلم. وفي كفارة المجامع في رمضان هل هي على التخيير أو على الترتيب؟ فيها قولان، وهما روايتان عن أحمد، والأكثرون على أنها على الترتيب، لكن الترتيب فيها ثبت بحكاية المجامع، لا بلفظ عام؛ فلهذا أقدم بعض العلماء على أن ألزم بعض الملوك بالصوم عيناً، وأن الترتيب فيها ليس شرعا عاما، بل هو من باب تنقيح المناط، وقدم العتق في حق من يكون عنده أصعب من الصيام ـ كالأعراب ـ وأما من كان العتق أسهل عليه فلا يجب تقديمه. /وكذلك تخيير الحاج بين التمتع والإفراد والقران عند الجمهور الذين يخيرون بين الثلاثة، وتخيير المسافرين بين الفطر والصوم عند الجمهور. وأما من يقول: لا يجوز أن يحج إلا متمتعاً، أو أنه يتعين الفطر في السفر ـ كما تقوله طائفة من السلف والخلف من أهل السنة والشيعة ـ فلا يجيء هذا على أصلهم. وكذلك القصر عند الجمهور الذين يقولون: ليس للمسافر أن يصلي إلا ركعتين ليس له أن يصلي أربعا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل في السفر قط إلا ركعتين، ولا أحد من أصحابه في حياته. وحديث عائشة الذي فيه أنها صلت في حياته السفر أربعاً كذب عند حذاق أهل العلم بالحديث. كما قد بسط في موضعه. إذ المقصود هنا أن التخيير في الشرع نوعان، فمن خير فيما يفعله لغيره بولايته عليه، وبوكالة مطلقة، لم يبح له فيها فعل ماشاء، بل عليه أن يختار الأصلح، وأما من تصرف لنفسه، فتارة يأمره الشارع باختيار ما هو الأصلح بحسب اجتهاده، كما يأمر المجتهد بطلب أقوي الأقاويل وأصلح الأحكام في نفس الأمر. وتارة يبيح له ماشاء من الأنواع التي خير بينها، كما تقدم. هذا إذا كان مكلفاً. وأما الصبي المميز يخير تخيير شهوة حيث ما كان كل من الأبوين نظير الآخر، ولم يضبط في حقه حكم عام للأب أو للأم، فلا يمكن أن يقال: /كل أب فهو أصلح للميز من الأم، ولا كل أم هي أصلح له من الأب، بل قد يكون بعض الآباء أصلح، وبعض الأمهات أصلح. وقد يكون الأب أصلح في حال، والأم أصلح في حال. فلم يمكن أن يعين أحدهما في هذا، بخلاف الصغير فإن الأم أصلح له من الأب؛ لأن النساء أرفق بالصغير، وأخبر بتعذيته وحمله وأصبر على ذلك، وأرحم به، فهي أقدر، وأخبر، وأرحم وأصبر في هذا الموضع فعينت الأم في حق الطفل غير المميز بالشرع. ولكن يبقي تنقيح المناط: هل عينهن الشارع؛ لكون قرابة الأم مقدمة على قرابة الأب في الحضانة، أو لكون النساء أقوم بمقصود الحضانة من الرجال فقط؟ وهذا فيه قولان للعلماء. يظهر أثرهما في تقديم نساء العصبة على أقارب الأم ـ مثل أم الأم، وأم الأب، والأخت من الأم، والأخت من الأب، ومثل العمة، والخالة ونحو ذلك ـ هذا فيه قولان هما روايتان عن أحمد وأرجح القولين في الحجة تقديم نساء العصبة، وهو الذي ذكره الخرقي في مختصره في العمة والخالة. وعلى هذا أم الأب مقدمة على أم الأم. والأخت من الأب مقدمة على الأخت من الأم. والعمة مقدمة على الخالة، كما تقدم. وأقارب الأب من الرجال على أقارب الأم، والأخ للأب أولى من الأخ للأم، والعم أولى من الخال، بل قد قيل: أنه لا حضانة للرجال من أقارب الأم بحال، والحضانة /لا تثبت إلا لرجل من العصبة، أو لامرأة وارثة، أو مدلية بعصبة أو وارث، فإن عدموا فالحاكم. وعلى الوجه الثاني فلا حضانة للرجال من أقارب الأم، وهذان الوجهان في مذهب الشافعي وأحمد. فلو كانت جهات الأقربة راجحة لترجح رجالها ونساؤها، فلما لم يترجح رجالها بالاتفاق فكذلك نساؤها ـ أيضًا؛ لأن مجمع أصول الشرع إنما يقدم أقارب الأب في الميراث والعقد والنفقة وولاية الموت والمال وغير ذلك، ولم يقدم الشارع قرابة الأم في حكم من الأحكام، فمن قدمهن في الحضانة فقد خالف أصول الشريعة، ولكن قدم الأم لأنها امرأة وجنس النساء في الحضانة مقدمات على الرجال. وهذا يقتضي تقديم الجدة أم الأب على الجد. كما قدم الأم على الأب، وتقديم أخواته على إخوته، وعماته على أعمامه، وخالاته على أخواله، هذا هو القياس والاعتبار الصحيح. وأما تقديم جنس نساء الأم على نساء الأب فمخالف للأصول والعقول؛ ولهذا كان من قال هذا موضع يتناقض ولا يطرد أصله؛ ولهذا تجد لمن لم يضبط أصل الشرع ومقصوده في ذلك أقوالا متناقضة، حتى توجد في الحضانة من الأقوال المتناقضة أكثر مما يوجد في غيرها من هذا الجنس. فمنهم من يقدم أم الأم على أم الأب، كأحد القولين من مذهب أحمد، وهو عند مالك والشافعي وأبي حنيفة. ثم من هؤلاء من يقدم الأخت /من الأب على الأخت من الأم، ويقدم الخالة على العمة، كقول الشافعي في الجديد، وطائفة من أصحاب أحمد. وبنوا قولهم على أن الخالات مقدمة على العمات؛ لكونهن من جهة الأم. ثم قالوا في العمات والخالات والأخوات: من كانت لأبوين أولي، ثم من كانت لأب، ثم من كانت لأم. وهذا الذي قالوه هنا موافق لأصول الشرع، لكن إذا ضم هذا إلى قولهم بتقديم قرابة الأم ظهر التناقض. وهم ـ أيضاً ـ قالوا بتقديم أمهات الأب والجد على الخالات والأخوات للأم، وهذا موافق لأصول الشرع، لكنه يناقض هذا الأصل؛ ولهذا لا يوافق القول الآخر أن الخالة والأخت للأم أولى من أم الأب، كقول الشافعي في القديم، وهذا أطرد لأصلهم، لكنه في غاية المناقضة لأصول الشرع. وطائفة أخرى طردت أصلها فقدمت من الأخوات من كانت لأم على من كانت لأب؛ لقول أبي حنيفة والمزني وابن سريج. وبالغ بعض هؤلاء في طرد قياسه حتى قدم الخالة على الأخت من الأب، لقـول زفر، وروايـة عن أبي حنيفة، ووافقهـا ابن سـريج ولكن أبـو يوسف استشنع ذلك فقدم الأخت من الأب رواه عن أبي حنيفة، وروي عن زفر أنه أمعن في طرد قياسه حتى قال: إن الخالة أولى من الجدة أم الأب. ويروون عن أبي حنيفة أنه قال: لا تأخذوا بمقاييس زفر، فإنكم إذا أخذتم بمقاييس زفر حرمتم الحلال وحللتم الحرام، وكان يقول: من القياس /قياس أقبح من البول في المسجد. وزفر كان معروفا بالإمعان في طرد قياسه إلى الأصل الثابت في الذي قاس عليه، ومن علة الحكم في الأصل وهو جواب سؤال المطالبة، فمن أحكم هذا الأصل استقام قياسه. كما أن زفرًا اعتقد أن النكاح إلى أجل يبطل فيه التوقيت، ويصح النكاح لازماً. وخرج بعضهم ذلك قولا في مذهب أحمد، فكان مضمون هذا القول: أن نكاح المتعة يصح لازما غير موقت، وهو خلاف المنصوص وخلاف إجماع السلف. والأمة إذا اختلفت في مسألة على قولين لم يكن لمن بعدهم أحداث قول يناقض القولين ويتضمن إجماع السلف على الخطأ والعدول عن الصواب، وليس في السلف من يقول في المتعة إلا أنها باطلة، أو تصح مؤجلة. فالقول بلزومها مطلقاً خلاف الإجماع. وسبب هذا القول اعتقادهم أن كل شرط فاسد في النكاح فإنه يبطل وينعقد النكاح لازماً، مع إبطال شرط التحليل. وأمثال ذلك. وقد ثبت في الصحيحين عن عقبة بن عامر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج)، فدل النص على أن الوفاء بالشروط في النكاح أولى منه بالوفاء بالشروط في البيع، فإذا كانت الشروط الفاسدة في البيع لا يلزم العقد بدونها، بل إما أن يبطل العقد، وإما أن يثبت الخيار لمن فات غرضه بالاشتراط إذا بطل الشرط، فكيف بالمشروط في النكاح؟ وأصل عمدتهم كون النكاح يصح بدون تقدير الصداق، كما ثبت بالكتاب والسنة والإجماع، فقاسوا الذي يشرط فيه نفي المهر /على النكاح الذي لم يزل تقدير الصداق فيه، كما فعل أصحاب أبي حنيفة والشافعي، وأكثر متأخرى أصحاب أحمد. ثم طرد أبو حنيفة قياسه فصحح نكاح الشغار بناء على أنه لا يوجب إشغاره عن المهر. وأما الشافعي ومن وافقه من أصحاب أحمد فتكلفوا الفرق بين الشغار وغيره؛ لأن فيه تشريكا في البضع، أو تعليق العقد أو غير ذلك مما قد بسط في غير هذا الموضع. وبين فيه أن كل هذه فروق غير مؤثرة. وأن الصواب مذهب أهل المدينة مالك وغيره، وهو المنصوص عن أحمد في عامة أجوبته، وعامة أكثر قدماء أصحابه: أن العلة في إفساده بشرط إشغار النكاح عن المهر، وأن النكاح ليس بلازم إذا شرط فيه نفي المهر أو مهر فاسد، فإن الله فرض فيه المهر، فلم يحل لغير الرسول النكاح بلا مهر، فمن تزوج بشرط أنه لا يجب مهر فلم يعتبر الذي أذن الله، فإن الله إنما أباح العقد لمن يبتغي بماله محصناً غير مسافح، كما قال تعالى: /وهذا هو الفرق بين النكاح وبين البيع، فإن البيع بثمن المثل وهو السعر، أو الإجارة بثمن المثل لا يصح. وقد سلم لهم هذا الأصل الذي قاسوا عليه الشافعي وكثير من أصحاب أحمد في البيع. وأما الإجارة فأصحاب أبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم يقولون: يجب أجرة المثل فيما جرت العادة فيه، ومثل ذلك كمن دخل حمام حمامي يدخلها الناس بالكرا، أو يسكن في خان أو حجرة عادتها بذلك، أو دفع طعامه أو خبزه إلى من يطبخ أو يخبز بالأجرة، أو بناية إلى من يعمل بالأجرة، أو ركب دابة مكاري يكاري بالأجرة، أو سفينة ملاح يركب بالأجرة، فإن هذه إجارة عند جمهور العلماء، ويجب فيها أجرة المثل وإن لم يشترط ذلك، فهذه إجارة المثل، وكذلك إذا ابتاع طعاما مثل ما ينقطع به السعر، أو بسعر ما يبيعون الناس، أو بما اشتراه من بلده، أو برقمه، فهذا يجوز في أحد القولين في مذهب أحمد وغيره. وقد نص أحمد على هذه المسائل ومثلها في غير هذا الموضوع، وأن كثيرًا من متأخرى أصحابه لا يوجد في كتبهم إلا كقول بفساد هذه العقول لقول الشافعي وغيره. وبسط هذه المسائل له مواضع أخر. والمقصود هنا كان مسائل الحضانة وإن الذين اعتقدوا أن الأم قدمت لتقدم قرابة الأم لما كان أصلهم ضعيفا كانت الفروع اللازمة للأصل الضعيف ضعيفة، وفساد اللازم يستلزم فساد الملزوم، بل الصواب بلا ريب أنها /قدمت لكونها امرأة، فتكون المرأة أحق بحضانة الصغير من الرجل فتقدم الأم على الأب، والجدة على الجد، والأخت على الأخ، والخالة على الخال، والعمة على العم. وأما إذا اجتمع امرأة بعيدة ورجل قريب فهذا بسطه في موضع آخر. إذ المقصود هنا ذكر مسألة الصغير المميز، والفرق بين الصبي والصبية. فتخيير الصبي الذي وردت به السنة أولى من تعيين أحب الأبوين له؛ ولهذا كان تعيين الأب، كما قاله أبو حنيفة وأحمد. . الأم كما قاله مالك وأحمد في رواية، والتخيير تخيير شهوة؛ ولهذا قالوا: إذا اختار الأب مدة ثم اختار الأم فله ذلك، حتى قالوا: متى اختار أحدهما ثم اختار الآخر نقل إليه، وكذلك إن اختار أبداً. وهذا هو قول القائلين بالتخيير ـ الحسن بن صالح، والشافعي، وأحمد بن حنبل ـ وقالوا: إذا اختار الأم كان عندها ليلا، وأما بالنهار فيكون عند الأب، ليعلمه ويؤدبه. هذا هو مذهب الشافعي وأحمد. وكذلك قال مالك، وهو يقول: يكون عندها بلا تخيير، والأب يتعاهده عندها، وأدبه وبعثه للمكتب ولا يبيت إلا عند الأم. قال أصحاب الشافعي وأحمد: إن اختار الأب كان عنده ليلا ونهاراً، ولم يمنع من زيارة أمه، ولا تمنع الأم من تمريضه إذا اعتل. فأما البنت إذا خيرت فكانت عند الأم تارة، وعند الأب تارة أفضي ذلك إلى كثرة بروزها، وتبرجها، وانتقالها من مكان إلى مكان، /ولا يبقي الأب موكلا بحفظها، ولا الأم موكلة بحفظها. وقد عرف بالعادة أن ما يتناوب الناس على حفظه ضاع، ومن الأمثال السائرة: لا يصلح القدر بين طباخين. وأيضًا، فاختيار أحدهما يضعف رغبة الآخر في الإحسان والصيانة فلا يبقي الأب تام الرغبة ولا الأم تامة الرغبة في حفظها، وليس الذكر كالأنثي، كما قالت امرأة عمران: ولهذا كان لباسها المشروع لباسًا يسترها، ولعن من يلبس لباس الرجال، وقال لأم سلمة في عصابتها: (ليلة لا ليلتين) رواه أبو داود وغيره، وقال في الحديث الصحيح: (صنفان من أهل النار من أمتى لم أرهما بعد: نساء كاسيات، عاريات، مائلات، مميلات، على رؤوسهن مثل أسنمة البخت، لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، ورجال معهم سياط مثل أذناب البقر يضربون بها عباد الله). /وأيضًا، يأمرون المرأة في الصلاة أن تجمع ولا تجافي بين أعضائها، وتتربع ولا تفترش، وفي الإحرام لا ترفع صوتها إلا بقدر ما تسمع رفيقتها، وأن لا ترقي فوق الصفا والمروة. كل ذلك لتحقيق سترها وصيانتها، ونهيت أن تسافر إلا مع زوج أو ذي محرم، لحاجتها في حفظها إلى الرجال، مع كبرها ومعرفتها. فكيف إذا كانت صغيرة مميزة، وقد بلغت سن ثوران الشهوة فيها، وهي قابلة للانخداع؟ !! وفي الحديث (النساء لحم على وضم إلا ماذب عنه) فهذا قياس أن مثل هذه الصفة المميزة من أحوج النساء إلى حفظها وصونها، وترددها بين الأبوين مما يخل بذلك من جهة أنها هي لا يجتمع قلبها على مكان معين، ولا يجتمع قلب أحد الأبوين على حفظها. ومن جهة أن تمكينها من اختيار هذا تارة وهذا تارة يخل بكمال حفظها، وهو ذريعة إلى ظهورها وبروزها، فكان الأصلح لها أن تجعل عند أحد الأبوين مطلقًا، لا تمكن من التخيير، كما قال ذلك جمهور علماء المسلمين: مالك، وأبو حنيفة، وأحمد وغيرهم. وليس في تخييرها نص ولا قياس صحيح، والفرق ظاهر بين تخييرها وتخيير الابن، لا سيما والذكر محبوب مرغوب، والبنت مزهود فيها، فأحد الوالدين قد يزهد فيها مع رغبتها فيه، فكيف زهدها فيه؟ فالأصلح لها لزوم أحدهما، لا التردد بينهما. ثم هناك يحصل الاجتهاد في تعيين أحدهما، فمن عين الأم كمالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايتين، لابد أن يراعوا مع ذلك صيانة الأم لها؛ ولهذا قالوا: ما ذكره مالك والليث وغيرهما: إذا لم تكن الأم في موضع حرز /وتحصين، أو كانت غير مرضية، فللأب أخذها منها، وهذا هو الذي راعاه أحمد في الراوية المشهورة عن أصحابه؛ فإنه إذا كان لابد من رعاية حفظها وصيانتها، وأن للأب أن ينتزعها من الأم إذا لم تكن حافظة لها بلا ريب، فالأب أقدر على حفظها وصيانتها، وهي مميزة لا تحتاج في بدنها إلى أحد، والأب له من الهيبة والحرمة ما ليس للأم. وأحمد وأصحابه إنما يقدمون الأب إذا لم يكن عليها في ذلك حرز، فلو قدر أن الأب عاجز عن حفظها وصيانتها، أو مهمل لحفظها وصيانتها، فإنه يقدم الأم في هذه الحالة. فكل من قدمناه من الأبوين إنما نقدمه إذا حصل به مصلحتها، أو اندفعت به مفسدتها. فأما مع وجود فساد أمرها مع أحدهما فالآخر أولى بها بلا ريب، حتى الصغير إذا اختار أحد أبويه وقدمناه إنما نقدمه بشرط حصول مصلحته وزوال مفسدته. فلو قدرنا أن الأب ديوث لا يصونه، والأم تصونه، لم نلتفت إلى اختيار الصبي، فإنه ضعيف العقل قد يختار أحدهما لكونه يوافق هواه الفاسد، ويكون الصبي قصده الفجور، ومعاشرة الفجار، وترك ما ينفعه من العلم والدين والأدب والصناعة، فيختار من أبويه من يحصل له معه ما يهواه، والآخر قد يرده ويصلحه، ومتى كان الأمر كذلك فلا ريب أنه لا يمكن من يفسد معه حاله. والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (مروهم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع)، فمتى كان أحد الأبوين يأمره بذلك والآخر /لا يأمره كان عند الذي يأمره بذلك دون الآخر؛ لأن ذلك الآمر له هو المطيع لله ورسوله في تربيته، والآخر عاص لله ورسوله، فلا نقدم من يعصي الله فيه على من يطع الله فيه، بل يجب إذا كان أحد الأبوين يفعل معه ما أمر الله به ورسوله، ويترك ما حرم الله ورسوله، والآخر لا يفعل معه الواجب، أو يفعل معه الحرام، قدم من يفعل الواجب، ولو اختار الصبي غيره، بل ذلك العاصي لا ولاية له عليه بحال، بل كل من لم يقم بالواجب في ولايته فلا ولاية له عليه، بل إما ترفع يده عن الولاية ويقام من يفعل الواجب، وإما أن نضم إليه من يقوم معه بالواجب، فإذا كان مع حصوله عند أحد الأبوين لا تحصل طاعة الله ورسوله في حقه، ومع حصوله عند الآخر تحصل، قدم الأول قطعًا. وليس هذا الحق من جنس الميراث الذي يحصل بالرحم والنكاح والولاية إن كان الوارث حاجزًا أو عاجزًا، بل هو من جنس الولاية ـ ولاية النكاح والمال التي لابد فيها من القدرة على الواجب وفعله بحسب الإمكان ـ وإذا قدر أن الأب تزوج ضرة، وهي تترك عند ضرة أمها، لا تعمل مصلحتها، بل تؤذيها أو تقصر في مصلحتها، وأمها تعمل مصلحتها ولا تؤذيها، فالحضانة هنا للأم. ولو قدر أن التخيير مشروع، وأنها اختارت الأم فكيف إذا لم يكن كذلك. ومما ينبغي أن يعلم أن الشارع ليس له نص عام في تقديم أحد الأبوين مطلقًا، والعلماء متفقون على أنه لا يتعين أحدهما مطلقًا، بل مع العدوان والتفريط لا يقدم من يكون كذلك على البر العادل الحسن القائم بالواجب. والله أعلم.
|